سلخت الشمسُ عن النهارِ جلدتَهُ الثالثةَ، وتركتها جثَّةً من لحمٍ وظمأٍ. تسير “نورا” لا لأنَّها تُريد، بل لأنَّ الموتَ الذي خلفَها أشدُّ هولًا من الموتِ الذي أمامَها،
فإنْ عاشتْ نَجَتْ، وإنْ ماتتْ في طريقِها، نَجَتْ أيضًا.
صارتِ الرمالُ تحتَ قدميها المتورِّمتين بحرًا من نارٍ سائلةٍ، والسَّماءُ فوقَها قُبَّةٌ نحاسيَّةٌ صهَرَتها أنفاسُ جهنَّم. في حَلقِها خَنجَرٌ من العَطَش، وفي عينيها جفَّ الدمعُ.
رأت “منصور”، واقفًا حيثُ يرتعشُ الهواءُ، رأسُهُ لم يكن فوقَ كتفيه، بل مذبوحًا ويرقدُ بين كفَّيه، ودماؤُهُ كما هي في طينِ الأرضِ. نظرتِ العينانِ في رأسِهِ المحمولِ إليها، وانفرجتِ الشفتانِ عن صوتٍ أجشَّ، يخرجُ من الحنجرةِ المذبوحةِ كحشرجةِ ريحٍ في جوفِ بئرٍ:
إيّاكِ أنْ تَسقيهِ من ذاتِ الكأسِ يا نُورا.
صرختْ بلا صوتٍ. هوتْ على ركبتيها، وغاصَ وجهُها في الرملِ الحارقِ، فغابتْ عن وعيِها للحظةٍ. وحين أفاقتْ، رأتْ أمَّها.
تجلسُ قبالتَها، تُهزُّ قدميها، ترتدي الثوبَ الأسودَ الذي كُفِّنَتْ به يومَ قُتِلَتْ، وتكلَّمتْ:
أضعتِ شرفَكِ؟ غادةٌ أخرى ومنصورٌ آخر؟ سيقتلُكِ أبوكِ!
لم تملكِ القوَّةَ للرَّدِّ على أشباحِها. نهضتْ، ومضتْ تُكمِلُ مسيرَها نحوَ لا شيء. شعرتْ أنَّها ستمشي هكذا إلى أنْ تصيرَ هي نفسُها حبَّةَ رملٍ، يذروها النسيانُ.
ثم رأته.
جسمٌ معدنيٌّ زيتيٌّ لامعٌ، أدركتْ بعدَها أنَّها سيَّارةٌ، لا تُشبهُ تلك الخُردةَ الصدئةَ في عزبَتِها، لوَّحتْ بكلِّ ما أُوتيتْ من قوَّةٍ كآخرِ قطرةِ ماءٍ في قربةٍ مشقوقةٍ، قبل أنْ تخونَها قدماها وتَسقطَ، ويداها تحمي بطنَها الغَضَّ.
توقَّفَتْ أمامَها، نزلَ رجلٌ عجوزٌ وامرأةٌ، وعلى لسانِهما: يا سَتِّير يا رب!
وبكتْ “نورا” وهي تُردِّد: خذوني بعيدًا، وحياةِ النبيِّ لا تتركوني!
حَمَلاها برفقٍ، يخافان أنْ تَسقُطَ وكأنَّها ستنكسرُ، وأدخلاها إلى السيَّارةِ.
ألقتْ برأسِها على المقعدِ الوثيرِ، وشعرتْ ببرودةٍ لم تشعرْ بها في حياتِها.
تحرَّكتِ السيارةُ، وبدأ جسدُها يرتجفُ مع اهتزازِها اللَّطيفِ، تضحكُ وتبكي في آنٍ واحدٍ، وتبتعدُ عن العزبةِ، ولا يهمُّ إلى أينَ، فالمهمُّ أنَّها رحلتْ للأبدِ، وتتمنّى أنْ تجدَ حياةً للذي في بطنِها، حياةً تستحقُّ أنْ تُعاشَ.
نامتْ “نورا”. نامتْ للمرَّةِ الأولى في حياتِها بلا خوفٍ، والجنينُ في أحشائِها، الذي كان يركلُها قبل قليلٍ، سكنَ هو الآخرُ، يستمعُ معها إلى أغنيةِ الحياةِ التي بدأتْ للتوِّ. في تلك اللحظةِ، لم تكن امرأةً هاربةً من الموتِ، بل فتاةً تُولَدُ من جديدٍ، وقد تركتْ خلفَها في لُجَّةِ الصحراءِ، جثَّةَ حياتِها القديمةِ لتأكلَها غربانُ الماضي إلى الأبدِ.
ثم انبثقَ صوتُ امرأةٍ تُغنّي، ينسابُ كالنهرِ في أرضٍ ميتةٍ، صوتُ أمِّ كلثوم:
خُدْ عُمري كُلُّه… بس النهاردة خلّيني أعيش.
اترك تعليقاً