انتهى الدفتر وجلست أفكر فيما نحن بصدده؛ أسمع صوت عمي يستعجل الخالة لتنهي ترتيب الحقائب وتدعها من جيش الشطائر، بعدها يتكلم مع عمتي بثينة على الهاتف ويشرح لها خطة السفر للبلد المجاور حتى تهدأ الأوضاع، تجادلها أن يأتي إليها فيطمئنها أنه رتب كل شيء لزيارتها لنا، لكن سفرنا جميعًا إليها صعب يكاد يكون مستحيلًا، تقتنع على مضض.. انتهي من حزم حقيبتي وأضع الدفتر الذي يشبه البوابة السحرية التي تُفتح على الماضي وكتاب الرسائل أسفل الملابس، أخرج فأجد عمي وجدتي برأسها المثقوب في الشرفة تناديني الخالة وتعطيني شطيرة، وتذهب لتغلق سحاب الحقيبة التي وضعت فيها الكون فلا يستجيب، أضحك عليها لأنها بدأت تبكِ كرهها للسفر والغربة تستغرب من تقبلي للأمر، وأستغرب من تمسكها بالأرض التي طالما نبذتنا!

أنادي لها عمي ليغلق الحقيبة وهو غارق في مكالمات مع عائلته، سرحت في شكل الحياة الجديد.. كيف ستسير الأمور أصابت عمي حمى القلق؛ عرف من مصدر ما أن الأمور ستزداد سوءً ولن تهدأ قريبًا، هكذا قرر في ثانية ترك كل شيء قال أنه لن يتحمل سلب الوطن والأهل معًا، لم تعترض جدتي عندما طُرح عليها الأمر.. لا نعرف إن كان رأسها أستوعب أم لا، اكتفي عمي أنها لم تعترض. تركتهما يحاربان بعضهما؛ يخرج عمي نصف محتويات الحقيبة بحجة أنها غير مهمة، بينما الخالة تصرخ أنها لن تجد مشطًا كهذا في بلاد بره وتفعل هذا مع كل غرض، اقتربت من الشرفة فوجدتها فارغة للوهلة الأولى لم ألحظها؛ تقف على السور.. تسمرت قدماي وقبل أن يعمل عقلي نظرت من فوق كتفها، ضحكت وهي تهمهم أنها ليست عارًا لتهرب بعد الآن.. ثانية وسقطت ليعلو الصراخ فجأة!

***

قال الابن الأكبر أنه حادث ظل يرددها حتى أقتنع، وقف في وسط العزاء يشكر سعي العالم، ويتحسر عن الخطأ الغير مقصود.. خجلًا كان من أنها يأست ورحلت هكذا، في الليل تشاجر مع عمتي التي أتت على جناح السرعة سمعتها تصرخ فيه وهو لا يجيب:

«أي حادث؟ وأي قدم زلت؟ سور طوله متر ونصف أتغالط نفسك؟ انتحرت لأنها تريد أن تفعل عاشت بأنانية وماتت بها، توقف عن خداع نفسك والقبول بتسكين الألم؛ سيكبر فجأة دون أن تعِ ويبتلعك عندها ستتقيأ روحك ولن ينفعك شيء، أبتر ألمك لعلك تنجو!»

قالت ما قالته وتركته في جوف الليل سمعته ينهنه في البكاء، أردت أن أقوم له لكنني خشيت أن أجرحه، أمسكت يدي عمتي بثينة التي تتمدد بجواري فربتت عليها، وبقينا حتى شرقت الشمس نحدق في السقف دون كلمة، انتظرت بصبر كنت أعرف أن لحظة الانهيار قادمة..

في الصباح أقنع عمي الخالة أن تأتي معنا، قال شيئًا عن أنها فرد منا وأختنق صوته، فبكت تأثرًا وحبًا غمرني حنان مفاجئ نحوه، وأردت أن أربت على كتفه أنه لا بأس لكنه خرج سريعًا، ليكمل الإجراءات بعدما أخرته الظروف.. لم تتحدث عمتي ولم تعترض على شيء، حتى ظنت الخالة أنها تستثقل وجودها خاصة أنها ستأخذنا عندها، فكرت في سؤالها إن كان هذا يزعجها وقبل أن أنهي الجملة، أنهار السد ونزفت كلمات أوجعتها طويلاً:

«لماذا كرهتني؟ انتظرت طوال حياتي أن تمسح على رأسي، أن تقول لا تحزني يا ابنتي وسامحيني، لكنها فضلت الموت على أن تراني.. ذهبت دون أن تخبرني ماذا فعلت لها؟ وبأي ذنب ظلت تعاقبني.. يا رب لا تسامحها أبدًا.. يا رب سامحها وأصلح داخلي.»

مسحت على رأسي العمة بثينة وتركتها تبكي، للحظة فكرت في حرق دفتر قمر قلت أنه أدى ما عليه، لكنني احجمت، وبعدما نامت عمتي دسسته بين أغراضها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار