خرجتُ من بوابةِ القصرِ مُتكئًا على كتفِ أمي، نتنفسُ الصعداءَ مُستقبلين نهارًا جديدًا في حياةٍ جديدةٍ. وخرجَ خلفَنا جيشُنا الصغيرُ من المُبصرين، يُطلقون الضَّحكات وهُم يَسحبون الطاغيةَ على الأرضِ كالجثةِ الهامدةِ بعدما أوسَعوه ضَربًا مُبرحًا.

استقبَلَنا حشدٌ كبيرٌ بخليطٍ غيرَ مُتجانسٍ من ثلاثِ فِرَق. فِرقة المُناشدين بـ «يسقطُ الطاغية» التي اختنقت هُتافاتُهم القليلةُ وسطَ مَوجةٍ عارمةٍ من هُتافات الفِرقةِ الثانيةِ المناديةِ بـ «يعيشُ الحاكم»، أما الفِرقةُ الأخيرةُ فتضمُّ التائهين الذين لم يَحسِموا مَوقفَهُم، فكانوا صُمًا بُكمًا عُميًا.

ورَغم عجزِ الطاغيةِ عن رَفعِ إصبعٍ بعد هُجومِ المُبصرين، لكنه جَاهَدَ ليصيح بأنفاسٍ مُتقطعةٍ وصوتٍ مُنهكٍ وهو يفترشُ الأرضَ:

– أسامحُكم!

كلمةٌ وحيدةٌ لكنها دَفَعَت الحناجرَ إلى ابتلاعِ الهُتافاتِ باختلافِها. أثارَت الكلمةُ استفزازي فقلت:

– ويحك! أتعفو عنا بدل أن تطلب العفو منا؟!

فصاح مُتجاهِلًا وجودي:

– أسامحُكم على ظُلمِ اليوم.. والأمس!

صاح أحدُ المؤيدين:

– وما ظُلمُ الأمسِ يا جلالةَ الحاكِم؟

تنهَّد بعمقٍ ثم صرخ:

– ظُلمُكم لأبي الذي طالبتُم الحاكمَ السابقَ بإعدامِه!

ربما انقسمنا في آرائِنا بين مؤيدٍ ومعارضٍ، لكننا اتفقنا على شَهقةِ صدمةٍ خرجَت من حناجرِنا جميعًا في آنٍ واحد. وخيَّم الصمتُ الثقيلُ حتى خُيِّلَ إليَّ سماعُ هُبوبِ الرياحِ وهي تَذرُو ترابَ أرضِنا في أعيُنِ الجميع. ثم سَرَت الهَمهماتُ بينَهم صانعةً شبكةً معقدةً من الكلماتِ غيرِ المفهومة.

صاح أحدُهم:

– الحاكمُ السابقُ لم يأمرْ طوالَ حُكمه إلا بإعدامِ شخصٍ وا …

صاح الطاغيةُ بصوتٍ مُتحشرِج:

وهذا الواحدُ أبي! اتُّهِمَ ظُلمًا بخيانةِ الحاكِم.. وطالبَ الشعبُ حينئذٍ بمُعاقبتِه.. وامتَثَل لمَطلَبِهم احتواءً للوضع فأمَرَ بـ …

ولم يُكمل، وإنما بَكى! إنها حتمًا لُعبةٌ أخيرةٌ لاستدرارِ التعاطفِ والإفلاتِ من القصاص. وكأن أمي سمِعَت أفكاري فصرخت بصرامة:

– امسح دموعَ التماسيحِ هذه، فقد أصبحَ بيننا مُبصرون!

استطرَد صائحًا بصوتٍ باكٍ متقطع:

– صفَّقتُم لمَوتِه وهو بريء.. واليوم تُحيون المشهدَ ذاتَه.. لكنني.. أسامحُكم!

صرخَ أحدُ المُبصرين:

– إنه كاذب، أعدِموه!

فصرخ أحدُ العميان:

– بل صادق، حرِّروه!

وخرجَ الوضعُ عن السيطرة! التحمت الفِرقتانُ كالثيرانِ الهائِجة، وفاحَت رائحةُ الدماءِ.. مجددًا!

سألْتُ أمي بقلق:

– تأزَّمَ الوضعُ.. ما العمل؟

فلم تُجِبني! بل أجابَني نِداءُ الطاغيةِ المُنهَك:

– كفاكُم يا أبنائي.. اتركوني أرحلُ بسلام.. كما رحلَ أبي.. اتركوني أضحي هذه التضحيةَ الأخيرةَ.. حَقنًا لدمائكم التي ستُراقُ بهذه الفِتنة!

بكلمةٍ منه ينفجرُ الوضعُ، وبكلمةٍ أخرىٍ يهدأ كأنه لم ينفجر قط! حثَّت أمي المُبصرينَ على اتخاذِ الخطوةِ المُنتظَرَةِ، فقلتُ بصرامة:

– لا أحدَ سِواي يضعُ حولَ عُنُقِه حبلَ المَشنقة!

* * *

اتَّكأتُ على درجاتِ السُّلمِ الخشبيِ لمِنصةِ الإعدامِ حتى اعتليتُها، وأمسكتُ المَشنقةَ المُتأرجِحةَ فوقَ رأسي، أنصتُّ إلى همساتِ عشراتِ الأرواحِ المشنوقةِ تطالبُ بالعدالة. ثم سمعتُ وَقعَ خُطواتٍ على السُّلم، خُطواتٍ مُتثاقِلةٍ غيرَ منتظمةٍ كأن صاحبَها يجرُّ قدمًا خلفَ الأخرى. ثم انقطعت الخطواتُ ووقَفَ صاحبُها أمامي.

انطلقت هُتافاتُ المُبصرينَ السعداءُ بقُربِ القَصاص، لكن غطَّى عليها نحيبُ العميانِ وعَويلُهم على حاكِمِهم الذي يظنونَه يضحي بروحِه فِداءً لهم.

صاح الطاغيةُ بصوتٍ مُتحشرِج:

– وصيتي الأخيرة.. ألا تُؤمنوا بالكُفرِ.. الذي يقولون عنه “البصر”!

ارتفعَ نحيبُ الناسِ فقلتُ بإعجاب:

– تؤدي دوركَ حتى الرَمَقِ الأخير!

غمغمَ بكلمات لم يسمعْها سواي:

– ووصيتي لك.. ألا تؤمنْ بالوَهم.. الذي تقولون عنه “العدالة”.. فأنتم مَن خَلقتُم الظالم!

خَشيتُ الاعترافَ بأثَرِ كلماته، لكن أصابعي وَشَت بما أخفيتُ فارتعَشَتْ على الحبلِ، تارةً تمسكُه وتارةً تفلتُه! نحيبُ العِميانِ يَعلو، وجَبيني يتفصَّدُ عَرَقًا باردًا، وأصابعي مُترددة، والمُبصرونَ يرتقبونَ القَصاص، والطاغيةُ صامتٌ واجِم.

اعتلَى أحدُ المبصرينَ المِنصة دون أن أشعرَ به، ظَنًا أنني أحتاجُ إلى المساعدة، لكنني أحتاجُ إلى مُساعدةٍ غيرَ التي صعدَ ليقدِّمَها. أحكمَ الحبلَ حولَ عُنُقِ الحاكم، وجَذَبَ الذِراعَ الحديدية، وانفتحَ البابُ الخشبي. اندَقَّت عُنُقَه.. وتدلَّى جسدَه متأرجِحًا.. والنساءُ بين عَويلٍ وزَغاريد، والفِرقَةُ الحائرةُ ما زالت تبحثُ عن جانبٍ لتنضمَّ إليه.

وقفتُ وحدي فوقَ المِنصة،

وفي عَقلي سؤالٌ أهرب منه:

لو كان صادقًا.. فمَن فينا الضحية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار