من بين السحب الرمادية التي حجبت أغلب اشعته كستارة طبيعية، بادلني القمر الخافت ضوؤه النظر من خلال تلك النافذة الصغيرة.
نظرت نحو الساعة الكبيرة على الحائط قبل أن ابتلع قرص ال”ريسبيريدون”، ذلك المرسى الذي يربطني رغماً عني بالواقع..
مازال شعوري بذلك القمر يراقبني كما لو كنت دميته، حتى بعدما تخلصت – تقريباً – من أغلب أعراض الذهان الذي لازمني ستة أعوام كاملة، عانيت الأمرّين لأتحسن
ورغم ذلك لازلت مضطراً للتعامل مع تلك الكوابيس التي لا تنفك تطاردني..
صوت دقات منتظمة كانت تتسارع، ليليها تلك الرائحة المميزة لامتزاج قطرات الماء مع التراب..
أغلقت النافذة حتى لا تتبلل الغرفة الصغيرة، تلك التي أصبحت عيادتي الجديدة.
هنا داخل تلك المؤسسة الوحيدة التي قبلت عودتي مجددًا لعالم الطب النفسي بشق الأنفس.
ورغم أنها مشفى صغيرة ونائيةً بعض الشيء تحمل من الذكريات بعض الروائح غير المرغوبة التي تثير بداخلي الماضي بأشكال عدة، إلا أنني كنت أرغب في العودة بأي ثمن
طبيبتي حاولت إقناعي أن ليليث لم تكن حقيقية، وكذلك “طارق” بل وحتى كل حكاياته.. ظللت -معها- اقنع نفسي بما تقول واتجاهل كل تلك الظلال والأحلام..
مهما ازدادت الهمسات من حولي، ومهما هاجمتني الظلال أو أثارت هلعي.. كنت أجلس في صمت، أراقبها دون أن ألقي لها بالاً..
ربما كنت جيداً في محاولاتي للهروب من بعض ما طاردني، لكن الذنب لم يكف يوماً عن النظر بوجهي كلما طالعت مرآة.
وكلما تذكرت “طارق” ترددت في ذهني إحدى عباراته القليلة التي قالها لي في جلستنا الثانية:
– أنا قد مت.. الأجدر إنقاذ الأحياء.
ربما كان هذا ما أراد، وربما هذا ما وجب عليّ فعله.
لذلك عدت لأمارس الطب النفسي، هذه المرة لأنقذ بعضًا من الأحياء.. أو ربما لأنتشل نفسي من عقدة الذنب تلك.
انتزعني من شرودي صوت معدني متقطع، صرير عجلات كرسيّ متحرك، يخترق الصمت في إيقاع منتظم كنغمة ثابتة
توقف الصوت للحظات ثم تلاه طرقات خفيفة على الباب.
ابتلعت ريقي في صعوبة وأجبت بأسرع ما استطعت:
- ادخل.
تحرك المقبض في هدوء، وانفرج الباب متثاقلاً كما لو انه يقاوم رغبته في ابقاء ما خلفه خفياً
وفي بطئ ظهر ذلك الظل الطويل لكرسي متحرك يتمدد باتجاهي..
تجمد الزمن تماما حتى اني ربما نسيت التقاط انفاسي
رائحة نفّاذة مألوفة تبدو كمزيج من العفن والعرق أصابت انفي… واخترقت عقلي.
لتجعل جسدي يرتجف كورقة شجر في خريف، وبينما اقترب ظله إلى داخل الغرفة، أكاد اقسم اني سمعت صوت دقات قلبي وتجمد الدم في عروقي، بل وكنت على وشك أن أقفز من مقعدي.
اتسعت ابتسامتي الساخرة، وتردد صدى ضحكة مألوفة في عقلي.
قلت في نفسي :
– يالغبائي..
تمت
اترك تعليقاً