“الجولة الأخيرة تبدأُ الآن!”

أفقتُ على صوتِ النِّظام، ثم دقة الساعة الظاهرة على الحائط، تحرَّكت للخلف ربع دورة، ألا يُفترض أن تتحرك للأمام! أليست آخر جولة؟!

 قمتُ مترنحًا، التقطتُ الجهاز، طالعتُ الخريطة، وتحرَّكتُ قاصِدًا المبنى الثالث. غادرتُ الغرفة، عبرتُ السَّاحة، دخلتُ نفقًا حلكته أشبه بفقد الضمير، واصلتُ التقدُّم على ضوء “الآيباد”، حتى وصلتُ إلى حجرةً رُسمَ على بابِها مهرِّج. في الدَّاخِل استقرَّت مرآة، وشاشة عرضٍ كبيرة، بمجرَّد دخولي ظهر فيديو فيه فاضل، ووسطَ توجُّسي بدأ يتحدَّث:

“عز، إن وصلكَ هذا المقطع فقد غادرتُ الدنيا”.

حرتُ بين رجائي وترقُّبي، لم أُرد نصرًا ولا هزيمة، فقط خلاصًا.

“آسفٌ على ما فعلتْ، كنتُ ضحيةً مثلك”.

استجديتُ الكلام، فأبى لفرطِ جبروته، بروفيسور فاضل ضحية! وماذا أنا! حشرةٌ يحنو عليها ويدعسُها وقتما شاء!

تابع بوجهٍ كالصخر:

“بدأ الأمر منذُ زمن، ليس مؤخرًا، ولا حين أخذتُك من الملجأ، بل قبلَ أن تولدَ يا عز.. حين حُملت سِفاحًا، في رحمٍ لم يرغبك، لأبٍ دُنياهُ التَّسلية. لا تحقد عليَّ، قدَّمتُ لكَ معروفًا حين اشتريتُك…”.

أذناي صمَّتهما قسوة الإدراك، رأسي كان أشبه ببُركانٍ يفور، شعرتُ بنفسي كثوبٍ مُرقَّع، أبي الذي تحمَّلتُه سنوات هو سجَّاني! أنا خطيئة ولدت لتكونَ ضحية؟!  مجرَّد عينة اختبار! وكلُّ ما عِشت، أوهمٌ هو أم واقع؟

  تتالت الذِّكريات أمام عينيَّ، لكن دون تشويش، حضرتني لحظات تعذيبِه إياي بقبو المنزل، يومَ حاول دفني حيًّا، مُحاولته إغراقي بحوض السِّباحة، ولمَّا كادَ يترُكُني فريسةً لكلابه. بعد كلِّ موقف كان يحتضنني بشدة، يُخبرني أننا نلهو، ويكافئني -حسب قوله- بحلوى أو لعبة. وحين كبرت، ازداد تسلُّطه، خاصةً حين بدأتُ أفهم، فآذى أصدقائي، دمَّر مشروعي، وقبل قتله المزعوم تحرَّش بحبيبتي.

ارتميتُ أرضًا مُحدِّقًا في سواد حياتي، لن أفعل شيئًا، ليس هناك أي فارق.. الآن أعرفُ شعور المسوخ، أيُّ دُنيا أعيشُها بعد كلِّ هذا!

بعد وقت لم أُدرِكه، أضاءت الشاشة وانطفأت عدَّة مرَّات، أُعيد المقطع، وحدث خللٌ في الصوت عدَّة مرَّات، ولم أميز بصعوبةٍ إلا “احذر عزييز.. الاختيار بيدك، ال..لوحة يا عز! اللوحة ه..ي الحل!”.

ثمَّ اسودَّت الشاشة، كمَّا صارت الحياةُ أكثرَ قتامةً في عينيَّ، نظرتُ إلى المرآة، كرهتُ قسمات وجهي، لم أعرف لمَ أعيش، فأنا مقطوعٌ من شجرةِ الحياة، منبوذٌ من العالم، هو قد جعل الاختيار بيدي لأول مرة، تُرى، هل أنجحُ إن حاولت؟! 

على الشاشة ظهرَ عيسى، ناداني فلم أُجب، ظننتُه مقطعًا مسجلًا، ثم قال:

  • أجبني يا عز، هذا بثٌّ حي.

رددْت:

  • ماذا تُريد؟!

جاءني صوتُه بحماسٍ غريب:

  • أنا في غُرفة التحكم، عرفتُ طريق الخروج. 
  • وماذا في ذلك؟ ارحل واتركني.

هتف فيَّ:

  • دونك لن يرحل أيٌّ منَّا، وحدك ستحلُّ سر اللوحة. معنا بالتحديد ساعة، سآتيك، وهذه المرَّة لن يمسكوا بنا..

                                                   ****

  كل شيءٍ بعدها حصل سريعًا، حضر عيسى إليَّ، وسحبني من يديَّ وأنا مخمورٌ بسوأة الإدراك، سرنا إلى غُرفتي، ظنًّا منه أن فيها ما يُساعِد، ارتميتُ على السرير بينما قلب هو كل شيءٍ في المكان، وفي أثناء تحديقي إلى السَّقف طرأ على ذهني شيء، تحرَّكتُ إلى المكتب، التقطتُ كتابًا كنت أراهُ دومًا بيديه، فتحته على صفحة المنتصف، وبدأتُ أجمعُ الكلمات، كل 20 صفحة:

“عزيز/خائن/ الحل/ اللوحة/ الساعة/ القلادة/ التجربة/ الأخيرة”. 

الآن عرفتُ ما سأفعل، ولن أكون مجرَّد ظلٍّ!

                                       ********

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار