
دعاء يحيى
تنهيدة متأخرة للموت
أقف على طرف الرصيف انتظر أن تعبر السيارة الحمراء والدراجة البخارية، أتأكد أن أول عربة على بعد كافي يسمح لخطواتي بالعبور، أقيس المسافة بعيني وأقدر أنها كافية دون مشاكل مع الطريق، اُسمي الله وينقبض صدري كعادتي أخطو ثلاث خطوات ويضربني الضوء فجأة؛ لم يكن ذنبي، لم يكن ذنبي.. عندما امتدت تلك اليد وخطّت على جسدي لم يكن ذنبي، كنت أنا الضحية لم أكن عارًا قط.. كنت طفلة لا تملك دفع الأذى، الأثم كله عليهم لأنهم الكبار، لأنهم من سمحوا له أن يأتي للبيت فلماذا عاقبوني أنا؟ سنوات من الخوف.. من يعوضني؟ من يعوضني سنواتي الضائعة ؟ من يسمع حكاية العجوز التي اكتشفت فجأة أنها لم تكن مذنبة؟ من يُجبر ما كُسر فيَّ وكسرته في بناتي؟ لا تعود المزهرية القديمة جديدة بلا شرخ وأن مسحت عليها أسفًا، لست عارًا.. جلدي لا يشي بالفضيحة.. لم يكن هناك داعي لسنوات احتمالي، ضاع عمري لأنني صدقت صوتًا غير صوتي، ممّن انتقم الآن !
لحظة وابيضت الدنيا في عيني؛ لم أعرف من أنا وماذا أفعل.. وقفت كالصنم لا أتحرك، أسمع أصوات الأبواق تلعنني، زمجرة عالية من ماتور مجنون، أصوات وأصوات ماذا تعني؟ على الأرض أناس تجري إليَّ لترفعني كرسي وماء مُحلى وسؤال إن كنت بخير، أسمع ولا أفهم.. لا يسعفني لساني للرد، سألني شاب عن بيتي ليوصلني نظرت في عينه وشعرت أنه يذكرني بآخر غائب، آخر أفتقده ولا أعرف همهمت أنني لا أعرف، سألني عن اسمي فلم أتذكر أكان لي اسم؟ فصمت، دقائق أم ساعات لا أعرف عاد بعدها عقلي للعمل، نظرت له من جديد وابتسمت أناديه:
«حسن! هذا أنت؟»
ضحك مندهشًا وهو يجيب:
«نعم يا أمي، اسمي حسن.. كيف عرفت؟»
لم أخبره أنه يشبه حسنًا آخر، تحاملت على ساعده ووقفت مسحت على رأسه مرتين، وصرخت بصوتي كله أتشاجر مع طيف:
«يا أمي، أتسمعيني؟ هذه أنا قمر لست عارًا ولن أسامح أبدًا، ويا رب أتكون المعرفة الآن؟ بعد ذوبان العمر، ما النفع؟ ما النفع!»
بهت الفتى فتركته يتحسر ويشفق ومشيت، عندما سألني الطبيب متى لاحظت عطب عقلي لم أخبره أنه بدأ من هنا؛ خفت وخجلت أن أحكى أمام سعيد، وإن فعلت ماذا أقول؟ أخاف أن أتعرى بالحكي وخاصة أمام ابني الأكبر، فظل هذا السر يكتم أنفاسي حتى طلع لي الطبيب باختراع الكتابة، وهأنا أُفصح عما يجب أن يبقى في طي الكتمان.. عزائي أنني أنسى أن كل هذه الكلمات تبدو بعيدة، كأنها تخص شخصًا آخر غيري.. وكأنني ما نطقت بحرف، صحيح أنني لن أعرف من سيقرأ هذا الدفتر في النهاية، وإن كانت رأسي ستمهلني لأكمل الحكاية، لكن شيء فيَّ يرتاح عندما يعرف أن أحدهم سيعرف أنني لم أكن فضيحة أو غولاً شريرًا كنت بشرًا، لوني رمادي كما كان يقول حسن لزوجته عندما تغضب مني، ليفهمها أنني ككل الناس عندي السيئ والجيد.. يالحسن انتظر أمك فأنت الوحيد الذي كنت تعرفها بحق، انتظرها ستأتي إليك قريبًا وتشفع لها عند صغيرتك حتى لا تكرهها، يا حبة عيني كم اشتقت!
اترك تعليقاً