كهف أفلاطون

مشهد الذروة

بقلم: شيماء الأمير

«أمَرَ جلالةُ الحاكمِ بالإعدامِ شنقًا واقتلاعِ الأعينِ للمُتهمين بالخيانةِ العظمى.

انصُبوا المشانقَ وثبِّتوا الأوتاد، وليشهدْ الشعبُ جزاءَ الخيانة!»

بالأمسِ اعتُقلوا بلا جريمةٍ.. واليومَ يُحاكَمون بلا محكمة. لاحت كتيبةُ الإعدامِ وهي تَسوقُ المُبصرين كالأغنامِ إلى مصيرِهم إما الموتِ بالشنقِ وإما الحياةِ بالعمى! يقولون إن جريمتَنا البصيرة، وأجيبهم أن يا ليتَ الجرائمَ كلَّها نبيلةٌ شريفةٌ كجريمتِنا!

تدلَّت جثثُ الثوارِ من المشانق، وانصهرت أجسادُ الأحرارِ على الأوتادِ الخشبيةِ بعد اقتلاعِ أعينِهم من مَحاجِرِها، وامتزَجَت رائحةُ الموتِ بترابِ الأرضِ المُخَضَّبَةِ بالدماءِ، ودَوى نعيقُ الغِربانِ حِدادًا على مَجزرةٍ بشريةٍ في حقِّ شعبٍ أعمى البصرِ والبصيرةِ، فتَراهم يسجُدون مُتضرِّعينَ للسفاحِ الذي اغتالَ حُريتَهم، يخَالونَهُ المَلاكَ الذي خلَّصَهم من الخَوَنة! بينما يرقصُ مُتفاخِرًا بين عَسَسِ بَلاطِه رَقصةَ الضِّباعِ على بَصائرَ قَمَعَها الاحتلالُ وثورةٍ ذَبَحَها الصمتُ.

اندَسَسْتُ وسطَ الشعبِ المُحتشدِ في ساحةِ القصرِ أراقبُ المَجزرةَ المُروِّعةَ بقلبٍ مُحترِق، حتى ظهرت أمي والعَسَسُ يُسلِّمون رقبَتَها إلى حبلِ المَشنقة! تَأجَّجَت نيرانُ غضبي فانقَضَضتُ أخَلِّصُها من أيديهِم، فأَوسَعُوني ضربًا وقيَّدوني وألقَوني تحتَ قَدَمَيِّ الطاغيةِ الواقفِ بكبرياءٍ وسطَ ساحةِ قصرِه. رفعتُ عَينَيَّ أواجِهُ خَصمِي الذي لطالما اشتَهيتُ لقاءَه، وجَحَظَت عينَاه لما أدركَ أنني مُبصر.

– أنت أحدُ المُتمردينَ المُبصرين؟

= بل أنا زَعيمُهم.

– أنت الخائنُ الذي خَدَعَ رِجالي؟

= لو كُنتُ خائنًا فماذا تكونُ أنت؟

– أنا الحاكمُ العظيمُ! ما جئتُ إلا للخلاصِ والتحريرِ!

= بل قُل للاحتلالِ والتدميرِ! كفاكَ تَلاعُبًا بالحقيقةِ ولنكشِفْ أوراقَنا كالرِجال!

– وهل يَبلُغُ التافهونَ أمثالُك مَبلغَ الرِجال؟

= بل أمثالي يُولَدون رجالًا بالفِطرة!

– ليتكَ أمعَنتَ التفكيرَ قبلَ أن تتَزعَّمَ أولئكَ الحُثالةَ بِاسمِ البَصرِ!

أشاحَ الطاغيةُ وَجهَه ونادَى في الشعبِ الأعمى:

– شعبي العظيم، أُبَشِّرُكُم بإلقاءِ القبضِ على زعيمِ المُتآمرين، فبِمَ تَحكُمون؟

فهَتفوا “الموتُ للخائن”

– عُذرًا يا فتى، فكلِمتُهم سيفٌ على رَقبتِك!

وسَحَبَ سيفَهُ من غَمَدِهِ وقبلَ أن يَهِمَّ بفَصلِ رأسي عن جسدي، استَوقَفتُهُ بجملةٍ صارمةٍ:

= أهكذا أرَقتَ دمَ ابنِكَ مُنذُ تِسعةَ عَشَرَ عامًا؟

تجَمَّدَت يداه وجَحَظَت عينَاه فاستطرَدتُ بسُخرية:

= أغَسَلَ الزمانُ الدمَ المَسفوحَ على أرضِ قصركَ يا.. جَلالةَ الحاكم؟ أم مَسَّكَ العمى كشعبكَ فغَابت عنكَ الحقيقة؟

– من أين أتيتَ بهذا الحديثِ؟

= أنا ابنُ الرجلِ الذي سَفَكتَ دمَهُ مع ابنِكَ في آخر عيدٍ للبصر، وابنُ المرأةِ التي تَركتَها يومئذٍ أرملةً وتَأمرُ الآن بشَنقِها!

التَفَتَ نحو أمي الصَامتةِ على مَنصَّةِ الإعدام، وتفرَّسَ ملامِحَها حتى تذكَّرَها فصرخَ بوحشية:

– أيتها اللعينة! لقد أقسمتِ حينئذٍ أن ابنَكِ وُلدَ مَيتًا!

= بل ولدتُ حيًا.. ومُبصرًا!

– مُحالٌ أن يُولدَ أيُّ مُبصرٍ على هذه الأرض! لأنني …

= لأنكَ وَأدتَ الحقيقةَ يومَ اغتَلتَ أبي وابنَك؟ أم لأنكَ أغشيتَ بَصائرَ الشعبِ فلم تَخرجْ من أصلابِهم نَفسٌ بَصيرة؟

ثم وجَّهتُ خِطابي للشعبِ الواقفِ كتماثيلَ لا تَفقَه:

= أيها الشعب، أنا أولُ مَن وُلدَ مُبصرًا على هذه الأرضِ مُنذُ عُقود! وأنا مَن نَشَرتُ البصرَ سرًا وحشَدتُ جيشًا للتمردِ على هذا المُحتلِ المُستبِد. هذه جريمتي، فاحكُموا إن كنتم تعقِلون! حَلَمَ أبي بأرضٍ حرةٍ وشعبٍ مُبصر.. فقُتل! وقاتِلُه يحكُمُكُم باسمِ الحرية.. فلا يسلِبَنَّكُم بصيرَتكم كما سلبَ بصرَكم!

– ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! الابنُ يحذو حَذوَ أبيه، لكنه لم يعِش ليُخبرَكَ أن أسماعَهم وأبصارَهم وأفئدتَهم مِلكي، لا يُبصرون إلا بإشارتي! وأظنُّكَ ستلقَى مصيرَه.. أبلِغْهُ وبقيةَ المُبصرين تحياتي!

وقبل أن يَبتُرَني بسيفِهِ لَمَعَت عيناهُ بوحشية:

– يحزُنُني قتلُكَ في رَيعانِ شَبابك، لذا سأعرضُ عليكَ عَرضًا نابعًا من قلبيَ الرحيم.. سأعفو عن أمِّكَ وبَقيةِ المعتقلين.. مقابلَ اقتلاعِ عينيكَ بيدي! وإذا رفضتَ تذهبون معًا إلى الجحيم! وفي الحالتين سأظلُّ حاكمًا للعميان، فاختَر بحكمة!

عَقَدَ عَرضُهُ الشيطانيُّ لساني.. عينايَ مقابلَ حياتِهم؟ والعمى قَدَرٌ حَتمِيٌّ؟ كيف سأبلُغُ طريقَ البصرِ بعدما قَيَّدَ الطاغيةُ قدمَيَّ على مُفترَقِ طريقين لا يُؤديان إلا إلى كَهفِ أفلاطون!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار