مشهد الذروة
عزبة النبي

-هو من قتل أمك!
تلك العبارة كانت رصاصةً فجّرت صدر منصور من الداخل، لتقتل ما تبقى فيه من إنسان. في تلك الليلة، مات منصور الفتى، ووُلد من رحم روحه الممزقة مسخٌ ثائر، لا يملك نفسه، يرى العزبة بأهلها مسرحًا للذبح الأخير.
سار كميتٍ عاد من موته ليسقي تراب العزبة بوقود المنيّة، لم يعفُ سوى عن دارٍ واحدة؛ لأن من تسكنها تسكن شغاف قلبه.
اندفع إلى جُحر الأفاعي، حيث اجتمع الثالوث النجس: عرفة، ويعقوب، والعزيز. اقتحم عليهم الباب، فتجمدت وجوههم كحجر، لكن عينيه لم تريا إلا وجه أمه، مبللًا بالدموع والخذلان.
فبصق الحقيقة المُرّة وقال:
سقط قناعك يا أبي، لماذا قتلتها؟
ارتج المكان. انفرط تماسكهم، واشتعلت الاتهامات وصاح عرفة:
هو من قتلها!
وهو يطعن يعقوب بنظرة خائنة، صرخ الأخير:
كاذب! أنت من أمرتني!
لم ينتظر منصور الحكم. ألقى بالشعلة أرضًا، فتعالت النيران وتجلّت، تشابكت الأجساد في رقصة موتٍ وحشية وسط النيران، صار يعقوب شعلةً بشرية تتخبط وتصرخ، بينما انقضّ منصور على عرفة، يمطره بلكماتٍ تحمل ثقل سنين اليُتم والقهر، لكمات كسرت عظامه، كل لكمةٍ كانت تقتلع من داخله طفلًا ظلّ يطلب الحب ولم يجده. وبزجاجة خمرٍ هوى بها على رأس العزيز، فأطفأت آخر أنفاسه وأغرقت المكان بالفوضى.
جرّ جسدين إلى السطح وسط الجحيم المتصاعد. فوق سقفٍ يئن من النيران، رفعهما واحدًا تلو الآخر، ثم ألقى بهما في العراء أمام أعين أهل العزبة، معلنًا عدالته الملطخة بالنار والدم، فظلم الظالم عدلٌ للمظلوم.
تلاهما جسد العزيز، فانفجرت الحشود غضبًا وركضوا صوب الدار لتحطيم الباب وقتله قصاصًا “للنبي”.
لكن منصورًا لم يتحرك. يطل على الخراب وحيدًا، تحيط به النيران من كل صوب، والدخان يختلط بدموعه. رأى نورا، بعيدةً بين الجموع، وعيناها ترجفان خوفًا منه. تلك اللحظة كسرت صدره أكثر من موت أمه. عاد طفلًا للحظة، طفلًا يصرخ صامتًا: “أنقذوني”. لكن أيادي الناس لم تُمدّ له، بل لذبحه.
حين أدرك ذلك، ابتسم ابتسامةً منكسرة، وأغمض عينيه وسط النيران وأخذ يبكي كطفل خائف، يسأل نفسه:
هل هذه هي النهاية؟
اترك تعليقاً