لم يكن حلماً، هذه المرة كان حقيقياً للغاية.. عاد الضوء تدريجياً، ومعه عاد هلعي، واندفعت الحرارة في عروقي مجرى الدم.

انتفضت لأجدها حولي في كل مكان.. “ليليث” تبدو كملايين الظلال من حولي، تسقط على كل حائط.

تتذبذب وتتراقص كشعلة شمعة توشك أن تنطفئ.

تضحك ساخرة، فيدوي صوتها داخل عقلي من كل مكان.

هممت أن أندفع نحو المكان الوحيد الذي خطر ببالي،

لكني توقفت أمام باب عيادتي، خائفاً من أن يكون مغلقاً كما في حلمي.

حاولت فتحه بعنف، فانفتح.

خرجت أهرب منها إلى حيث غرفته.. “طارق”.

أركض متلفتاً، تتسارع أنفاسي ويهتز كل شيء من حولي.

أقترب من غرفته شيئاً فشيئاً.

أشعر بها في كل مكان حولي، تراقبني كما لو نبتَ للجدران عيونٌ.

وجدت غرفته.. فتحت الباب ودخلت ثم صفعته خلفي، وكأن ذلك سيوقفها.

تجمدت ما إن وقعت عينيّ عليه، واقفاً في مواجهتي، تماماً كمرآة تعكس صورتي.

قال بسلاسة:

  • أخيراً! لقد كنت في انتظارك.

لم أفهم للوهلة الأولى كيف أنه واقف، ولماذا يبدو شكله مألوفاً لهذه الدرجة، بل وكيف يتحدث بتلك السهولة.

أكمل حديثه بصوت يغلب عليه الأسى:

  • أنت لم تفهم بعد..

كان قلبي يدق بعنف.

صوت “ليليث” يتعالى مجدداً بتلك الضحكات العجيبة.

الغرفة من حولي كانت تهتز.. أو أنا من ينهار.

أكمل طارق:

  • كل هذا الوقت وأنا أحاول تذكيرك..

ثم سكت لحظة قبل أن يلقي في وجهي قذيفته:

  • كيف استطعت أن تفعلها؟  كنا روحاً واحدةً سكنت جسدين..

كاد قلبي يقفز من حنجرتي، أما “ليليث” فعادت مرة أخرى للظهور في كل مكان.

الصداع يلتهم رأسي.. العرق البارد يكسو جلدي.. العالم من حولي يدور

شفتاي ترتجفان في شدة، لكنني أجبته:

  • ماذا تقول؟ لا، بل من أنت؟

ظلال “ليليث” كانت تندمج وتتجمع أسفل قدمي طارق لتصبح ظلاً له.

أجابني بمزيج من صوتهما:

  • صديق طفولتك.. خطأك الذي لا يُغتفر.. ومريضك الذي دفعتَه بيدك نحو الهاوية..

ومضات خاطفة هاجمت عقلي بعنف..

رأيتنا أنا وطارق نركض أطفالاً، نتحدث ونضحك صغاراً ونتشاجر شباباً..

الغرفة من حولي بدت وكأنها تتبخر في هدوء.

أسمع أصواتاً من خارج الغرفة لا اتبين منها سوى كلمة أو اثنتين

  • مجدداً؟ 
  • نادوا الطبيب

صمت هو لحظةً ونظر نحوي في تحدٍّ،

ثم أكمل قائلاً:

  • أنت من قتلني…!

صافرة عالية للغاية كانت تصم أذنيَّ.

  • مستحيل.. مستحيل!

كنت أردد، بينما يداي ترتجفان بشدة احاول ان امسك برأسي.. عقلي يصيبه الشلل.. أرفض أن اصدق ما يقول

  • ليتك صدقت مرضي.. لكنك ذهبت لتطارد فضولك بدلاً عن هذا.. بل وألحقتني بتلك المشفى النائية، حيث جعلتني فأراً للتجارب.. أنا والآخرين..

رددت خلفه في انهيار وفيضٌ من الذكريات يهاجم عقلي وينهشه في قسوة:

  • طارق..

أكمل:

  • لم يكن لي مهرب من ذلك العذاب سوى الانتحار..

ضوء ساطع للغاية ضرب وجهي فجأة.

رأيته.. طارق ممدداً على الأرض.

قلم مغروس في معصمه، وجسده يغرق بين الدماء.

انقشع الضوء مرة أخرى بسرعة.

سرعان ما انهار الحاجز الذي يحجب ذكرياتي، لتختلط بالدموع الغزيرة من عيني.

أشعر بنفسي أسقط رغم أني ما زلت واقفاً.

  • سامحني.. أرجوك، أنا كنت..

قاطعني صوته وحده في برود:

  • أنانياً.. لذا تستحق أن يحطمك الذنب إلى شظايا.. كما تحطمت أنا من قبلك.

الظلام يغزو الغرفة.

الأصوات تخفت.. جسدي يذوب..

كل شيء يتلاشى ببطء..

كل شيء.. إلا الذنب..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار